اعتكف كل منهما منشغلا منهمكا فيما رست عليه حياته من واجبات وأعمال وانشغالات ، فهما لا يسكنان معا،ولكنهما التقيا على غير رغبة منهما ،كما لم يستهدفا بعضهما كصيد ثمين يظفر به كل منهما .لم يكن في الأمر سوء نية، ولا تفكير ملي في اللقاء والحديث ،ولكن القدر شاء اللقاء .
كانت نظرات بعضهما إلى بعض تطبعها العفوية واللامبالاة، فكلاهما يبدو تافها بالنسبة للآخر .
التقيا ليستمرا على ذات الحال سنوات ليتناقشا ،ويتناظرا، ويسموا في حديثهما عن الجمال، والسكينة والاحترام و.....كانا يكثران الكلام عن العمل من أجل كل ثمين، بعيدا عن المال والجاه والجمال ، وكان ما يهمهما فقط السمو الأدبي والروحي، والتعامل الجاد في شتى أمور الحياة الآنية ، همهما التمكن من أدبيات الحوار الموصل للمبتغى . ولكن سرعان ما حلت الغيرة مكان كل جمال كان منها ومنه ، وبدأت التساؤلات العفوية التي لا قيمة لها ولا وزنا .
وتقاطرت الشكوك والظنون على كل كيانهما وتمكن الغضب من كل منهما ،وذهبت السكينة .
ترى ماذا حدث ؟
لقد تسلل الحب عبر الكلمات والحركات السكنات و التعابير، مارا إلى القلب ليذهب كل ما مر بينهما إلى الهاوية ، فساد الصمت حياتهما وتوقف الكلام الرصين والتعبير البلاغي، وكل ما يعتبر سموا روحيا وفكريا و أدبيا .
بقيا بين الأخذ والرد، وبين الرفض والقبول ،والإقناع والإقتناع ،لا يلوي أحدهما على أفكاره، ولا يستطيع كل منهما الانغماس فيما تتطلبه أيامه الآنية والآتية ،تخاصما ،تصالحا ، تناقشا ،لم يتفقا ..... ،ولكن مع كل ذلك ، لم يجدا راحة لا في الصحبة واللقاء، ولا في الفراق .
قال لها ذات يوم هل يكون لي مكان وأنت بعيدة ؟ هل يطول صبرك دون رؤياي ؟ وهل ستستمتعين بحديث آخرغيري ذات يوم ؟
كل إجاباتها كانت بالنفي، فتأتي بصور من هنا وهناك مستشهدة بما كان بين الأحبة الذين كتب عنهم التاريخ ،وشادت بصبرهم وتعطشهم المجتمعات .
كثيرة هي المسرحيات التي شخصت حياتهم وتعابيرهم ،ولكن هيهات لصديقنا هذا أن يثق في ظل مجتمعات غادر فيها الذئاب الغابة وشدوا الرحال نحو الشوارع ، كل الكلمات التي كانت تتردد على مسمعه وهو في جولته اليومية في شارع:" عين أبي فارس " ،جعلته يحدث نفسه صمت فيقول:ترى لو سمعت هذا الكلام ،كيف ستستقبله جوارحها ؟ ألن تكون امرأة كباقي النساء ترقص طربا لسماع كلمات ندية ؟ هل يمكنها ابتلاع طعم هؤلاء الماكرين ؟
احتار صديقي وهو يحدث نفسه بين المارة والباعة المتجولين ، فجأة رأى بعض الباعة يركضون - وهم يجرّون عرباتهم الصغيرة، بعض البضائع تتساقط منهم أرضا - لقد حاصروهم ، ووجردوهم من كل ما يملكون،حملت شاحنة كبيرة كل البضائع وذهبت بها الى .....
لفت انتباهه أمر هؤلاء الذين شردهم الآن، فما يكون الغد بالنسبة لهم ؟ قال في نفسه :لقد رجعوا إلى حيث البداية عن بكرة أبيهم ،إلى البحث امتهان عمل ما ،كيف يكون لهم ذلك ،وقد اجتثت عوادي الأيام جذورهم وما بحوزتهم ؟ فجأة سمع رنين هاتفه ،فأخرجه من جيبه، لقد كانت هي من تناديه ،
قالت له : أين أنت؟
لم تأخرت عن الموعد ؟
رد قائلا :هناك ما هو أهم مما بيننا من كلام ، فلو رجعنا إلى صورة كلامنا يوم لقائنا الأول، لكان أفيد لنا مما نحن فيه من غيرة وحساب وعقاب و صراعات لا تنتهي،.....تلعثمت في كلامها وردت قائلة :
عن أي شيء تتحدث ؟
قال لها ألا يروقك أن نرجع إلى عهدنا الأول معا ،فيكون في حديثنا تنوع وعلاج لأمور عدة ، فنسمو ونتعالى عن كل الأشياء التي لا نجني من ورائها سوى الخصام والعتاب ؟ ردت على مهل ، لك ما تريد ،أما أنا فمن اللواتي لا ينظرن إلى الخلف، ولا يفكرن أبدا في الرجوع إلى نقطة البداية ،فإن لم تكمل معي الطريق ،فقد تعلمت أن أشق طريقي مع رجال كُثُر، ودون خسارة كالتي خسرتها بصحبتك، الآن جعلتني أدعك في جولتك التي لا تنتهي ،ويقظتك التي لا غفوة فيها.